بقلم آلاء الكسباني :
كنت أتابع المنشورات والفيديوهات المضحكة التى عصفت بشبكة التواصل الاجتماعى –فيسبوك- عن فيديو المداخلة التى قام بها مختص بالشئون الكورية والتى اقتحمها أطفاله عنوة، لتظهر أمهما وتأخذهما سريعاً بعيداً عن الغرفة، إلى أن وقعت على أحد هذه الفيديوهات الذى يتناول الأمر معكوساً، فماذا لو كانت المداخلة مع مختصة بالشئون الكورية، وماذا لو اقتحم طفليها الغرفة أثناء هذه المداخلة؟!
تظهر امرأة بهذا الفيديو وهى تحمل الطفل الذى اقتحم الغرفة عليها تُجلسه بحضنها وتهدهده ليسكت عن البكاء دون أن تُخطئ بكلمة واحدة مما تقوله للمذيع الذى يقوم معها بهذه المداخلة، ليقتحم طفلها الأصغر عليها الغرفة أيضاً متخبطاً أثناء سيره ليصل إليها قائلاً "ماما"، فتمسك بزجاجة الحليب الصغيرة الخاصة به وترضعه فى نفس ذات اللحظة، ثم يظهر أمامها فجأة فرن مشعل، تُخرِج منه دجاجة مطهوة، لتمسك فى نفس اللحظة بممسحة وتنظف الأرضية، كلها هذا وهى جالسة فى مكانها، تهدهد طفليها، وتناقش الأوضاع السياسية الداخلية والعالمية فى الشئون الكورية الجنوببية! لتثور بداخلى الأسئلة عن حياة الأمهات العاملات بالصحافة والإعلام، وليراودنى فضولى عن اقتحام هذا العالم لمعرفة خباياه، فالأمومة وإن كانت تجربة شاقة، فهى خبرة ثرية للغاية تضيف للمرأة على كافة أصعدة حياتها، النفسية والعملية والإنسانية، ومن ثم قررت التطرق لهذا الموضوع، لنرى الجانب الآخر من الوجه الظاهر للأمور...
ومع إن هذا كان أكثر الأشياء إلهاماً بالنسبة لى لتناول الحياة العملية للصحفيات والإعلاميات، إلا إنه لم يكن الشىء الوحيد، فقد كنت بصدد حضور اجتماع عمل لجريدة الكترونية أعمل بها منذ فترة، لأتفاجئ بعدد لا بأس به من الصحفيات والكاتبات الأمهات اللاتى حضرن الاجتماع بأطفالهن، ولتدهشنى قدرتهن على اسكات أطفالهن بهدوء وحنان ورقة، وفى الوقت ذاته الاندماج فى الاجتماع بشكل تام والتصريح بأفكار جديدة ومثيرة لحملات صحفية قادمة بدون أدنى مجهود، وكأنهن يدرمن أظافرهن!
أثارت رؤيتى للأمر مخاوف كامنة بداخلى كنت قد قمعتها منذ فترة ليست بقصيرة، هل سيأتى اليوم الذى أستطيع أن أكون فيه أماً لأطفالى دون التخلى عن حلمى فى تحقيق ذاتى فى العمل الصحفى والأدبى؟ أيمكن أن يأتى اليوم الذى تقف فيه ابنتى بجانبى وهى فخورة بوالدتها دونما أن يختلج صدرها أى شعور بالنقص من حنانها ورعايتها؟ أم يجب أن أضحى بشىء فى سبيل الآخر؟! لكن تعاملى مع أولئك البطلات ألقى على قلبى السلام، وجعل من مخاوفى برداً وسلاماً على روحى ، فهدأ من روعى، وطمأننى، وأخبرنى أننى أستطيع، كما استطاعت مها عمر، تلك الكاتبة والصحفية الواعدة التى لطالما مثلت لى نموذج واقعى يُحتذى به، فهى أم لطفلة صغيرة تشبهها كثيراً شكلاً وقوةً وصلابة، وصحفية وكاتبة ناجحة تُحقق نفسها فى المجال الإعلامى مقالاً تلو الآخر...
الصحافة بالنسبة لمها إدمان، حيث ترى إنه لا يمكن للصحفى أو الكاتب أن يتراجع عن خوض طريق الصحافة الطويل بمجرد أن تخطو قدماها فيها خطوات حثيثة وأن يتذوق بها طعم النجاح، ولذا فهى تضعك أمام تحديات مستمرة وعراقيل دائمة فى هذا الطريق الطويل، تحتاج معها إلى النضال وخوض المعارك لتثبت ذاتك وأحقيتك بمكان فى المؤسسات الصحفية والإعلامية المهنية، وهو ما يجعلها عرضة لتحديات أكبر فى ممارسة دورها كأم، حيث يسلب منها متعة الأمومة، ويضعها فى بعض الأحيان فى مآزق مالية كبرى نظراً لعدم الأمان الذى يعترى الجانب المادى لمهنة الصحافة، فضلاً عن التحديات التي يضعها المجتمع أمامها باعتبارها امرأة صحفية، حيث يطلب منها دائماً أن تُبرهِن على أحقيتها بهذا العمل عن نظراءها من الرجال، فضلاً عن التأخير الذى قد يسببه الأطفال فى تسليم المقالات فى مواعيدها المحددة، مع عدم القدرة عن الاعتذار عن التسليم بأعذار مثل "كانت ابنتى مريضة"!
ومع هذا، تشعر مها بأن التجربة الصحفية قد أثرت أمومتها وبإن الأمومة قد أثرت تجربتها الصحفية، فكونها أم يجعلها على دراية بأغلب المعارف والمعلومات لتجيب على أسئلة ابنتها ولتراعى شئونها، وفتح لها آفاق كتابة ذاتية جديدة.
على صعيد آخر، أرى سارة عابدين، تلك الفتاة المرحة المازحة الضاحكة المتكلمة فى نفس واحد، والتى لا تستطيع أن تستشف إنها أم لثلاث فتيات جميلات إلا بعد أن تخبرك بهذا، لتصدمك صدمة شديدة! والتى لم أعرف بموهبتها الشعرية إلى جانب كتابتها للمقالات إلا مؤخراً، حيث صدر لها 4 دواوين شعرية، أحدها يتعلق بالأمومة.
حين سألت سارة إذا ما كان ثمة علاقة بين أمومتها وكتابتها، ابتسمت وقالت "مجرد ورقة وقلم لا غير، لأستطيع أن أكون مع نفسى لدقائق، وبعد أن كانت الكتابة هوايتي، أصبحت متنفساً وعلاجاً، لا أمارسها بأى طقوس خاصة، فلا قمر أحدق به مثلاً، فقط نجفة الصالة والزهور المرسومة على ورق الحائط، لا غرفة خاصة لأوراقي أو لأشيائى، لا موسيقى أسمعها لأبحث عن الإلهام، لكن فقط صخب صخب صخب، أكتب فى المطبخ، فى غرفة البنات، أفكر فى الكتابة وأنا أعلق الملابس على حبال الغسيل، أو أثناء تغيير حفاضات الصغيرات، أو أثناء غسيل الأطباق، ومع هذا أشكر هذا الصخب من حولي، فقد أصبح موسيقاى الخاصة التى تعتمل فى المشهد أثناء الكتابة!".
ومع إن حياتى تزخر من حولى بمثيلات مها وسارة، إلا إننى لا أنسى أبداً حياة الرائعة رضوى عاشور، التى استطاعت أن تفترش الأوراق بمشاعرها، وفى الوقت ذاته أخرجت شاعراً واعداً وشاباً يافعاً مثل تميم البرغوثى، فامتعتنا بأدبها وبشعره وضربت لنا مثلاً عظيماً لكاتبة وأم قوية لدرجة أن كتبت رائعة أدبية مثل ثلاثية غرناطة، واعتنت بطفل لأب غير مصرى مسافر بعيداً فى مجتمع يقدس الأمومة لكن يضع العراقيل الكثيرة أمامها.
إن الصحافة والأمومة مهنتان متكاملتان وإن تباينت خطوطهما بعض الشىء، ففى النهاية هما مهن سامية الشأن، نضال إنساني رفيع، وإن كان على جبهات مختلفة!
Topics that are related to this one