ما بين الاعتقاد الشائع والدليل العلمي: ماذا تقول الأبحاث الحديثة عن تأثير متلازمة ما قبل الحيض على الأداء الذهني؟
ينتشر اعتقاد واسع بأن القدرات العقلية للمرأة تتراجع خلال فترة الحيض أو قبلها، خاصة مع ظهور أعراض متلازمة ما قبل الحيض (PMS). هذا التصور، الذي يتكرر في الخطاب المجتمعي والإعلامي، يثير تساؤلات حول مدى استناده إلى أدلة علمية راسخة. تستعرض هذه الورقة ما توصلت إليه الدراسات الحديثة بشأن تأثير الدورة الشهرية ومتلازمة ما قبل الحيض على الوظائف المعرفية، مع التمييز بين التغيرات المؤقتة والادعاءات غير المدعومة علميًا.
هل تفقد المرأة جزءًا من قدراتها العقلية خلال فترة الحيض أو قبلها؟ ولماذا لا تزال هذه الفكرة حاضرة بقوة في الخطاب المجتمعي رغم التقدم العلمي؟ بين ما يُتداول من انطباعات شائعة وما تقوله الأبحاث العلمية، يبرز تساؤل جوهري حول حقيقة تأثير متلازمة ما قبل الحيض على القدرات الذهنية للمرأة، وما إذا كان الأمر مرتبطًا بعوامل فسيولوجية فعلية أم بتصورات اجتماعية وتأثيرات نفسية متراكمة.
تُعرَّف متلازمة ما قبل الحيض (PMS) بأنها مجموعة من الأعراض النفسية والجسدية المتكررة التي تظهر لدى المرأة خلال المرحلة الأصفرية من الدورة الشهرية، أي في الفترة التي تسبق نزول الحيض، وتختفي عادةً مع بدايته أو بنهايته. وتختلف طبيعة الأعراض وحدّتها من امرأة إلى أخرى، سواء من حيث شدتها أو تأثيرها على الحياة اليومية. وتشمل الأعراض النفسية الشائعة تقلبات المزاج، والعصبية، والشعور بالاكتئاب أو القلق، وقد يصاحبها نوبات من البكاء، في حين تتضمن الأعراض الجسدية انتفاخ البطن، وألم أو احتقان الثديين، والصداع، والإرهاق. وتشير الدراسات إلى أن نحو 95% من النساء في سن الإنجاب يختبرن واحدًا أو أكثر من هذه الأعراض بدرجات متفاوتة، بينما تعاني نسبة تُقدَّر بحوالي 5% من أعراض شديدة ومُنهِكة تؤثر بشكل واضح على الأداء اليومي وجودة الحياة. (1)
تظهر الدراسات نتائج متضاربة أن متلازمة ما قبل الحيض (PMS) واضطراب ما قبل الحيض الاكتئابي (PMDD) قد يرتبطان بتغيرات مؤقتة في بعض الوظائف المعرفية، إلا أن هذه التغيرات ليست ثابتة ولا تعني تراجعًا دائمًا في القدرات العقلية. وتظهر الفروق بشكل أوضح خلال المرحلة الأصفرية من الدورة الشهرية، خاصة لدى النساء المصابات بـ PMDD، حيث قد تتأثر مهارات مثل التركيز أو التفكير المجرد مؤقتًا. وقد تكون مرتبطة بالأعراض النفسية أكثر من التغيرات الهرمونية المباشرة.
في المقابل، يتحسن الأداء المعرفي لا سيما في اللغة والتفكير المجرد خلال المرحلة الجريبية -المرحلة الأولى من الدورة الشهرية، تبدأ مع نزول الطمث وتستمر حتى الإباضة- لدى جميع النساء، سواء المصابات أو غير المصابات باضطراب ما قبل الحيض الاكتئابي (PMDD). وتشير هذه النتائج إلى أن التأثير المعرفي، إن وُجد، يكون مرتبطًا بمرحلة الدورة الشهرية وشدة الأعراض، وليس بانخفاض عام أو دائم في القدرات العقلية للمرأة. (2)
أظهرت دراسة أُجريت على 60 مشاركة إلى وجود فروق معرفية مرتبطة بمراحل الدورة الشهرية، وكانت هذه الفروق أكثر وضوحًا لدى المصابات باضطراب ما قبل الحيض الاكتئابي (PMDD). فقد أظهرت النتائج تحولات معرفية ملحوظة خلال المرحلة الأصفرية، وهي المرحلة التي ترتبط بزيادة شدة الأعراض. في المقابل، تحسنت وظائف معرفية محددة مثل اللغة والتفكير المجرد خلال المرحلة الجريبية لدى جميع المجموعات. وتدعم هذه النتائج فكرة أن التأثير المعرفي إن وُجد يكون مؤقتًا ومرتبطًا بمرحلة الدورة وشدة الأعراض، وليس انخفاضًا عامًا أو دائمًا في القدرات العقلية للمرأة. (2)
رغم انتشار العديد من الخرافات حول تأثير الدورة الشهرية على القدرات العقلية للمرأة، تشير نتائج تحليل تلوي حديث -وهو منهج إحصائي قوي يدمج نتائج دراسات متعددة بشكل منهجي لتوفير استنتاج أكثر دقة وقوة حول موضوع معين- إلى عدم وجود دليل علمي قوي يدعم هذه الادعاءات. فقد حلّل الباحثون 102 دراسة شملت 3943 مشاركة و730 مقارنة معرفية، تناولت مجالات متعددة مثل الانتباه، والوظائف التنفيذية، والذكاء، والقدرة المكانية واللفظية، والإبداع، والمهارات الحركية. وأظهرت النتائج عدم وجود تحولات دورية منهجية أو فروق جوهرية في الأداء المعرفي بين مراحل الدورة الشهرية، سواء من حيث السرعة أو الدقة. ورغم ظهور فروق محدودة في بعض اختبارات القدرة المكانية، فإنها لم تصمد أمام التحليل الإحصائي الصارم، ولم تدعمها الدراسات ذات المنهجيات القوية. كما لم يُرصد أي تحيز في النشر أو تأثير لحجم العينة. وتخلص الدراسة إلى أن مجمل الأدلة المتاحة لا يدعم الفكرة الشائعة بأن القدرات المعرفية للمرأة تتغير بشكل ملحوظ خلال الدورة الشهرية، مؤكدة الحاجة إلى دراسات مستقبلية بعينات أكبر وتعريفات هرمونية أدق لمراحل الدورة. (3)
تشير نتائج تجربة عشوائية مضبوطة أُجريت في سويسرا على 150 امرأة مصابات بمتلازمة ما قبل الحيض أو اضطراب ما قبل الحيض الاكتئابي إلى أن جزءًا معتبرًا من الأعراض المرتبطة بهذه الحالات قد يتأثر بالعامل الإيحائي. فقد أظهرت المجموعة التي تلقت علاجًا وهميًا مع تفسير واضح لآلية عمله (Open-Label Placebo) تحسنًا أكبر في شدة الأعراض وتأثيرها على الحياة اليومية مقارنة بالعلاج المعتاد أو العلاج الوهمي دون تفسير. وتدعم هذه النتائج فرضية أن التوقعات النفسية تلعب دورًا مهمًا في حدة الأعراض، ما يشير إلى أن بعض التأثيرات المنسوبة إلى متلازمة ما قبل الحيض، بما في ذلك الإحساس بتراجع الأداء الذهني، قد تكون ناتجة جزئيًا عن تأثير البلاسيبو وليس عن خلل معرفي فعلي. (4)
تشير دراسة بعنوان «اضطراب الوظائف المعرفية التنفيذية أثناء الدورة الشهرية للمرأة»، أُجريت بقسم علم النفس بكلية الآداب جامعة طنطا، ونُشرت في 15 يناير 2025، إلى وجود ارتباط محتمل بين التغيرات الهرمونية، ولا سيما مستويات هرمون البروجسترون، وبين الأداء في بعض الوظائف التنفيذية لدى النساء.
وتوضح الدراسة أن نتائج الأبحاث في هذا المجال لا تزال متباينة؛ إذ تتفق مع عدد من الدراسات السابقة التي تشير إلى دور وسيط للبروجسترون في الأداء المعرفي، بينما تختلف مع دراسات أخرى لم تجد تأثيرًا واضحًا. كما تُرجع الدراسة هذا التضارب إلى اختلاف المناهج البحثية، وصِغر أحجام العينات في بعض الدراسات، واعتماد بعضها على موانع الحمل كمؤشر غير مباشر للتغيرات الهرمونية. وتخلص إلى أن التأثيرات المحتملة على الوظائف التنفيذية أن وُجدت تكون محدودة معتمدة على عوامل منهجية وهرمونية، ولا تشير إلى اضطراب معرفي عام أو دائم خلال الدورة الشهرية. (5)
تُظهر الأدلة العلمية أن القدرات العقلية للمرأة لا تتراجع بشكل كبير خلال الدورة الشهرية. التغيرات المحتملة المرتبطة بـ PMS أو PMDD تكون محدودة ومؤقتة، وقد تتأثر بالعوامل النفسية والتوقعات الذاتية بقدر تأثرها بالتغيرات الهرمونية. ولا تدعم التحليلات التجميعية واسعة النطاق الفكرة الشائعة عن انخفاض معرفي عام لدى النساء خلال الدورة الشهرية، ما يؤكد ضرورة التمييز بين الخرافات المجتمعية والحقائق العلمية.
تصنيفات الموضوعات
Mariam Rafaat (مدققة معلومات)
صحفية حاصلة على بكالوريوس إعلام من جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، تخصص إذاعة وتليفزيون (2023/2024...
صحفية حاصلة على بكالوريوس إعلام من جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، تخصص إذاعة وتليفزيون (2023/2024). لديها خبرة ثلاث سنوات كمراسلة في قسم الأخبار والتحقيقات بجريدة المصري اليوم، وتعمل كمدققة حقائق في موقع أخبار ميتر. وهي متخصصة في تحديد الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة وتفنيدها، وخاصة تلك التي تنتشر على نطاق واسع على منصات التواصل الاجتماعي. ومن خلال عمليات التحقق الصارمة، تضمن وصول المعلومات الدقيقة إلى الجمهور.
يتيح فريق أخبار ميتر المساحة المناسبة لرد الأشخاص المعنيين والجمهور على المعلومات الواردة في عملية تقصي الحقائق بتصحيحها بشفافية كاملة. يمكن التواصل معنا عبر بريد الموقع الإلكتروني [email protected]. كما يتكفل الفريق بإجراء التصحيحات اللازمة حال التأكد من صحة المعلومات وقبولها في أسرع وقت ممكن. قدم من هنا