بقلم - مها صلاح الدين:
يَحكي لي أساتذتي في الماضي عن أطنان الأوراق التي كانت تحاوطهم إذا ما أرادوا البحث عن معلومة.. مكاتب الأرشيف والمكتبات التي كان عليهم الغوص فيها لإعداد تقرير أو بروفايل.. أما الآن، لم يعد علينا اختراق الأبواب المغلقة للحصول على المعلومة.. فقط وقت كاف لبحث معمق محدد الهدف، ومتمكن من تقنياته قد يوصلك إلى معلومات منشورة في خفايا المواقع العالمية، تمكنك من نسج تحقيق دولي.
كذلك قد يكون هناك خبر، تعامل معه الجميع على أنه "خبر" .. فقط خبر، وتنطلق أنت منه بفكرة، من معلومات منثورة هنا وهناك.. لتنتج تحقيق خارج الصندوق.
تلك هي التحقيقات عبر المصادر المفتوحة، الذي اتجه إليها العالم منذ سنوات، وعرفها عالمنا العربي منذ زمن ليس ببعيد.
تحقيقات تعتمد على الفكرة، ونسج الخيوط والمعلومات المعلنة، التي تُشكل كل واحدة منها معلومة بحد ذاتها، أما إذا استجمعتهم في إطار قصتك، ستثبت فرضية تحقيقك الذي قد يتعدى الحدود.
دخلت إلى عالم التحقيقات عبر المصادر المفتوحة من خلال تحقيقي "اختبار المعارضة في البرلمان.. النتيجة صفر"، الذي بدأت قصته حينما أطلق وكيل البرلمان تصريحًا تلفزيونيًا ينتقد فيه آداء النواب، ويتهمهم بعدم استخدام أدواتهم الرقابية، وأبرزها "الاستجواب"، ليكون هناك وجود لمعارضة حقيقية في مصر.
مجرد تصريح تلفزيوني، تناقله الصحفيين بأقسام التوك شو كخبر عادي، ولكن كان عليّ كصحفية استقصائية التحقق من صحته، ثم من كيفية ذلك.
حددت لنفسي إطارًا زمنيًا، هو دورتي الانعقاد الأولى والثانية للبرلمان، وبدأت أنقب عن الاستجوابات التي تقدمت في هذه الفترة عن طريق شبكة الإنترنت – أغلب النواب حينما يتقدمون بتقديم طلب استجواب يصدرون بيانًا صحفيًا به وثيقة الاستجواب.
جمعت هذه البيانات - 33 استجواب - وحللتها، وفقًا للأحزاب – كل حزب وعدد والاستجوابات، ووفقًا للمجالات المتقدمة بها، ثم عدت إلى النشرة الدورية الرسمية التي تصدر عن البرلمان مع انتهاء كل دورة انعقاد، ووجدت أن البرلمان وافق على مناقشة 3 استجوابات فقط من أصل 33 استجواب، أحدهم سقطت لاستقالة والوزير، والاثنين الآخرين لم يتم مناقشتهما حتى الآن.
البيانات والمصادر المفتوحة وحدها قادتني إلى حقيقة تستحق التفسير والمواجهة.. فخرج هذا التحقيق الذي حاز فيما بعد على جائزة أفضل تحقيق مدفوع بالبيانات في الوطن العربي عام 2018.
اختبار المعارضة فى البرلمان.. النتيجة "صفر"
في عام 2016 أنتج الصحفي الأردني مصعب الشوابكة تحقيق بعنوان "نواب البزنس" كشف خلاله عبر مصادر مفتوحة، كيف تعدى نواب برلمانيون على مواد الدستور التي تمنع النائب من التعاقد مع الحكومة في أي نشاطات تجارية أثناء مدة عضويته.
ومن خلال النتائج التي تعلنها الحكومة الأردنية عن أسماء الشركات التي تفوز بالمناقصات الرسمية، تتبع الزميل الصحفي علاقة البرلمانيون بهذه الشركات، سواء إن كانوا ملاك أساسيين، أو في مجلس إدارتها بشكل معلن، أو من علاقات ذويهم ومشاركتهم فيها. الأمر الذي جعل 24 وزارة تحجب أسماء الشركات الفائزة بعطاءاتها.
نواب البزنس.. عطاءات بالملايين في جيوب نواب سابقين
ومن خلال البيانات والمصادر المفتوحة، استطاع الزميل التونسي وليد المجري، تحديد ملامح الإرهابي التونسي، وتشريح شخصيته بالتفاصيل الملموسة، عبر دراسة كمية علمية أنجزها المركز التونسي للبحوث والدراسات حول الإرهاب تحت عنوان "الإرهاب في تونس من خلال الملفات القضائية".
اعتمدتْ الدراسة على الملفات والوثائق القضائية المنشورة أمام المحاكم بداية من سنة 2011 حتى موفّى 2015، حيث قام فريق البحث بالاطلاع على 384 ملفا قضائيا تمّ فيه تتبّع أكثر من 2224 متهما بالارهاب.. وجعلوا من هذه البيانات مصدرًا مفتوحًا للاستخدام والتحليل، وهو ما قام به الزميل.
ملامح شخصية "الارهابي" التونسي وفق الملفات القضائية
وبالمثل، استطاع الزميل محمود الطباخ، تحليل خطاب أبو بكر البغدادي، زعيم داعش الذي قُتل مؤخرًا، والتوثيق الاختلاف والتحولات التي طرأت عليه في ظروف سياسية وحقب زمنية مختلفة من خلال قصته "خطابات الدم".
كانت المصادر المفتوحة في هذه الحالة، هي خطابات وإصدارات البغدادي، الذي قام بتحليلها "طباخ"، من خلال أدوات متقدمة لتحليل النصوص، ومن ثم تمثيلها بصريًا، للخروج بالنتائج.
كلمات كالرصاص حملتها خطابات البغدادي المبنية على العنف والكراهية
أما الزميل أحمد الشامي، فاستطاع استخدام أدوات المصادر المفتوحة في البحث عبر مصادر التواصل الاجتماعي، في إثبات فرضية تحقيقه "كليوباترا.. صنعت خارج مصر"، والذي حاز وترشح لعدد من الجوائز المحلية والدولية، من خلال استخدام أدوات البحث في قواعد البيانات المفتوحة لمواقع التواصل الاجتماعي، التي ساعدته على توثيق علاقة رجال أعمال أجانب بملكية مصانع تنتج سجائر كليوباترا - المصرية - خارج مصر، فتمكن من خلال البحث في قواعد البيانات المفتوحة هذه من الحصول على صور لهؤلاء الأشخاص داخل المصانع، ومواجهتهم بها، مما كان عاملًا أصيلا في إثبات فرضية تحقيقه.
مصراوي يكشف في تحقيق استقصائي: "كليوباترا.. صُنِعَتْ خارج مصر"
وقادتني المصادر المفتوحة إلى تجربتي الثانية، تحقيق "طلب رسمي.. كيف تسلم مواقع التواصل الاجتماعي بياناتك لحكومات العالم؟".
جاءت فكرته حينما نشرت إحدى مراكز الدراسات الدولية تقرير يفيد بزيادة ظاهرة تسليم مواقع التواصل الاجتماعي لحكومات العالم، من خلال طلبات رسمية. من هنا بدأت عملية البحث والتقصي، التي انتهت بالحصول على سجلات تلك الطلبات الرسمية، ونتائجها، بُنى التحقيق في الأساس على مصادر مفتوحة، ونسجت خيوطه من مصادر مفتوحة، لم تتنكر لها كبرى الشركات المالكة لأهم مواقع التواصل الاجتماعي في العالم.
قمت بتحليل هذه النتائج، والنبش عن الإطار القانوني الذي تتم من خلاله هذه العملية، وتفاصيل خطوات تقديم هذه الطلبات، وكيفية البت فيها، ثم تمثيلها بصريًا في تحقيق رقمي، ذو بُعد دولي، حاز مؤخرًا على جائزة التميز الصحفي من النادي الإعلامي الدنماركي.
إذًا، التحقيقات عبر المصادر المفتوحة تبدأ بفكرة.. ابدأ الآن في تجربتك الخاصة!