كتبت سناء فتوح :
مروراً بالقصص والحكايات التي تملأ أحداثنا اليومية ، اختفت آلاف بل ملايين القصص بدافع الغموض ، قد تكون أخفتها الظروف وقد يكون أخفاها أصحابها عن قصد ، اندثرت أحداثها ولم تلقى مصيرها للعلانية ، لم يحصل الناس على حقهم في معرفة تفاصيلها ، ومع ذلك ، هناك بعض القصص التي كشفت تفاصيلها للبشر و أزيل الستار عن خفاياها وأبعادها ، هذه القصص التي يكشفها لنا صحفيون أعطتهم مهنتهم الفرصة للتحقيق في أحداث معينة ، هؤلاء الصحفيون الذين أدركوا أن الصحافة هى سلطة رقابة على الحكومات والأنظمة السياسية ليست رقابة على الجماهير لحشدهم وتوجيههم لرأي معين.
لا أحد يغفل دور الصحافة وخاصة الصحافة الاستقصائية ودورها المؤثر في ممارسة الرقابة على مؤسسات الدولة وتعريف الجهات الرقابية بأوجه القصور والخلل لدعم عملية الإصلاح والتغيير في المجتمعات ودفع المسؤولين السياسيين للتجاوب مع أي مشاكل اجتماعية ، ومن ثم بناء نظام اجتماعي يتميز بالشفافية والانفتاح وإدراك المسؤولية .
ولقد اتضح دور الصحفيين من خلال موضوعاتهم الاستقصائية المختلفة إلى فضح جرائم الرشوة والفساد والجريمة المنظمة وهدر الموارد والوحشية مع بعض المواطنين في وقائع مختلفة .
ومن أشهر الوقائع التي توضح أثر الصحافة على صنع القرار السياسي ، واقعة ووترجيت للرئيس الأمريكي نيكسون عندما تم إثبات تورطه في وضع أجهزة تجسس في الحزب الديمقراطي الحزب المنافس له أثناء جولة الانتخابات الرئاسية عام 1972، ولقد استطاع صحفيان شابان وهما (بوب وودوارد ومايكل برنشتاين ) في كشف الكثير من التفاصيل في هذه الواقعة والحصول على تصريحات مصدر هام أكد تورط جهات رفيعة في عمليات التجسس منها وزارة العدل ومكتب التحقيق الفيدرالي ووكالة الاستخبارات الأمريكية وصولاً للبيت الأبيض ،وبعد إدانة الرئيس نيكسون وشركائه لاستخدام مناصبهم في الكذب والخداع ، أصبحت شعبية الرئيس نيكسون في تدهور مستمر مما اضطره لتقديم استقالته في أغسطس 1974 ، وتلعب الصحافة الحرة هنا في مثل هذه الأحداث دوراً محورياً في كشف المعلومات التي تتعمد الأنظمة السياسية إخفائها لمساعدتهم على اتخاذ القرار الصحيح لبلادهم.
ولا يمكن أن يفوتنا في هذا السياق الحديث عن الصحفي سيمور هيرش أشهر صحفيي التحقيقات في أمريكا الذي كشف العديد من قضايا الفساد التي تورطت فيها حكومته وأهمها عام 2004 عندما كان الجيش الأمريكي يحتفل مفتخراً بما أسموه انتصاراً في العراق ، ثم فاجأ الصحفي الجماهير بتحقيق نشره في مجلة ( النيويوركر) يكشف تفاصيل وقائع التعذيب في سجن أبوغريب ، وكذلك تحقيقه الشهير في أواخر الستينات أثناء حرب أمريكا في فيتنام والذي كشف فيه بالأدلة مذبحة ( ماي لاي ) ، حيث قامت مجموعة من الجنود الأمريكان لمدة يوم كامل بإبادة سكان قرية فيتنامية تدعى ( صان لاي ) ، ولقد لعبت الصحافة في ذلك الوقت دوراً هاماً في التفات الرأي العام لمعارضة الحرب على فيتنام مما أدى إلى إحداث تغيير كبير في السياسة الخارجية الأمريكية آنذاك .
ولم تكن هذه هى المرة الوحيدة التي يكشف فيها هيرش ما ترتكبه السلطة من جرائم في حق الشعوب ، فلقد نشرت له مجلة ( النيويوركر) مقالاً عرض فيه تفاصيل المذبحة التى ارتكبها الجنرال ماكافرى قائد الفرقة ٢٤ الأمريكية يوم ٢٠ مارس ١٩٩١ «بعد وقف إطلاق النار» فى حرب الخليج الأولى، التى راح ضحيتها مئات من العراقيين ، هؤلاء الصحفيين يكون انحيازهم الأول والأهم هو الإنسان ، يدركون ما تعنيه الصحافة وما تحدثه من تأثير قوي ، يدركون أن مسئوليتهم تتمثل في إيقاظ الجماهير وعرض الدلائل أمامهم ليس توجيه الجماهير وتهيئتها خلف أهداف الدولة .
لقد قدمت الكثير من التحقيقات الصحفية بعد انتشارها الفرصة للرأي العام لإجبار الجهات المسئولة لسن قوانين واتخاذ إجراءات في سبيل مواجهة الفساد وحل مشكلات يعانون منها أو استرداد حقوق الإنسان أو تحسين ظروف معيشتهم ومن ضمن هذه التحقيقات : تحقيق استقصائي أجراه بعض الصحفيون بجريدة (النيويرك تايمز ) ينتقدون فيه سياسة شركة ( ابل ) التي تعتبر من أهم وأشهر الشركات الإلكترونية في أمريكا في الأوضاع القاسية والمميتة التي يعاني منها العاملون الصينيون في المصانع التي تقوم بصنع الأجهزة الإلكترونية للشركة ، والرواتب الضئيلة التي يتلقونها كما عارض التحقيق أيضاً رؤية الشركة في عدم قدرتها على تصنيع الأجهزة في مصانع بأمريكا ، ونتيجة لانتشار التحقيق وطرحه العديد من التساؤلات الهامة ، تم زيادة رواتب أكثر من مليون عامل في المصانع الصينية المصنعة لأجهزة ( ابل) بنسبة زيادة 25% كإجراء من ضمن حزمة إجراءات تم اتخاذها لتحسين أحوال العمل لهؤلاء الموظفين، وأعادت الشركة تقويم سياساتها في التعامل مع المصنعين لها، دعت الشركات المنافسة لها للعمل على تطويق ساعات العمل الإضافي المفروضة على العاملين، كما أعلنت استثمار 100 مليون دولارللبدء في إنشاء مصانع في أمريكا لتصنيع حواسب آلية، وأخيراً قام الكونجرس الأمريكي بفتح تحقيق لمسائلة الشركات الإلكترونية عن التكتيكات التي تقوم بها لتقليل الضرائب .
وكلما أدرك الصحفي أهمية تأثيره، امتد هذا الأثر لمعالجة العديد من القضايا التي يعاني منها المجتمع ، فلا يقتصر دوره على رقابة المؤسسات السياسية والاقتصادية وما يقوم به المسئولون وأصحاب الأعمال بل يتسع ليشمل رقابة المؤسسات الاجتماعية التي قد يحدث فيها الكثير من المخالفات غائبة عن الأعين وبعيدة عن المحاسبة ، فعلى سبيل المثال : أجرت صحيفة (أتلاتنا جورنال ) تحقيقاً استقصائياً أظهرت فيه اتجاه بعض الأساتذة وإدارات المدارس المختلفة في مساعدة الطلاب على الغش في نظام الامتحانات الموحدة تحت ضغط تحقيق أعلى الدرجات، ولقد استغرق هذا التحقيق ثلاث سنوات لتجميع بيانات موثقة ومعلومات تثبت صحة الاتهامات لهذه المدارس والذي توازى معه قيام السلطات بالتحقيق في الوقائع وانتهى الأمر باعتراف المدارس بتورطها بالقيام بذلك ، مما أدى إلى قرار الكثير من المدارس على مستوى جميع الولايات لإعلانها عن إعادة مراجعة نتائج الاختبارات للطلاب.
وإذا أردنا أن نرى ونلمس تأثير الصحافة في تعديل مسار المجتمع وتقويمه ، فلابد أن تترك أنظمة مجتمعاتنا الفرصة لتطبيق الصحافة الحرة الصحافة المحاسبة، التي يكون انحيازها تحقيق العدالة والتنمية ليس الترويج لسياسات الدولة ، فكم من كلمة سطرها وكم من صورة التقطها صحفيون انكشفت بها أسرار وعٌرفت بها حقائق كان لها الدور في تغيير الواقع الذي نعيشه .