بتجاعيد حفرها الزمن ويدين ملفوفتين في حرير، يُطل الوجه البشوش من خلف مربع خشبي مقاييسه محددة، ليبدأ عمله على خيوط النول في الثامنة صباح كل يوم.. «النول» ذلك الصديق الوفي الذي رافقه طوال عمله في صناعة السجاد اليدوي.
ينسج «الحاج محمد»، ابن مدينة بنها بالقليوبية، خيوط النول كأنه ينسج أيام عُمره، خيط فوق خيط وتكتمل القطعة الفريدة، وبعد فترة تصبح بين يديه واحدة من أفضل منتجات السجاد في العالم.. مرحبا بكم في قرية «طحلة» مصنع السجاد اليدوي المهجورة.
حكاية سجادة مصرية.. خرجت من بنها ووصلت للعالمية
صناعة السجاد اليدوي في قرية طحلة في بنها
تبدأ رحلة السجادة بتصميمات مميزة يصنعها أهل القرية بأنفسهم، مستلهمين أفكارها من التصميمات العالمية الإيرانية منها والمملوكية، وتُرسم على لوحات صغيرة تظل مُعلقة أعلى النول حتى يُنهيها العمال بتحويلها لقطعة كبيرة من السجاد، تختلف في أحجامها وأشكالها وفقًا لطلب المشتري.
يقول «الحاج محمد» إن إنتاج السجادة يستغرق من 3 أشهر لسنة، حسب حجمها. ويحكي: «في مرة عملت أكبر سجادة في حياتي، كانت بحجم واجهة مبنى كامل وأخذت سنة لأنتهي منها».
لكل عميل- حسبما يشرح- رأي وذوق خاص، وهذا ما يوفره السجاد اليدوي، إذ يمكنك اختيار الرسمة والألوان المفضلة، وما يميز القرية هو اختيار التصميمات الفريدة التي تتنوع بين «الكلاسيك» و«المودرن»، حسب الطلب.
قطعة السجاد الواحدة هنا تتداخل فيها خيوط الحرير وخطوط الحياة معًا، لتشكل نوعًا فريدًا جذب العالم لشرائه؛ إذ يتميز السجاد اليدوي المصري بضمان مدى الحياة، مع إتاحة إصلاح أي جزء يفسد في أي وقت.
صناعة السجاد اليدوي في قرية طحلة في بنها
لا مواد خام.. لا تصدير.. لا أيدٍّ عاملة
يعمل أبناء قرية «طحلة» في صناعة السجاد منذ اشتداد أعودهم؛ لا يوجد شاب وصل للتعليم الجامعي أو تولى وظيفة إلا ومرّ على النول ونسج قطع حريرية.
إنها المهنة الأشهر بالقرية التي كانت تنسج نحو 500 نول بطريقة دورية، منها ما جرى تصديره لأمريكا وروسيا لمدة تجاوزت الـ25 عامًا، ومنها ما يُباع بأكثر من 3000 دولار، والبقية تزيّن الفيلات الكلاسيكية المصرية.
لكن بمرور الوقت، ترك الزمن بصمته على الصنعة، بالضبط كما تركها على كفوف العاملين الذين تتجاوز أعمارهم 50 عامًا. تحولت القرية من عز أصالة صناعة السجاد وباتت في حالة لا يُرثى لها، لدرجة إغلاق كثير من الورش بعد إيقاف التصدير عام 2011.
يقول تاجر بالقرية لـ«المصري اليوم»: «الحال الآن تغير كثيرًا عن زمان، ليس في قرية طحلة فقط بل امتد لجميع أماكن صناعة السجاد اليدوي في مصر، هي نفس المشكلات من عدم توافر المواد الخام، أو رفض الشباب تعلم الحرفة، كل هذا أثّر على وضع الصدارة الذي اعتدناه في الماضي».
شباب القرية يفضلون «التوكتوك» ولا يطيقون صبرا على «النول»
صناعة السجاد اليدوي في قرية طحلة في بنها
يشرح التاجر أزمة صناعة السجاد في «طحلة»: «الشباب لا يهتمون ولا يتمهلون لتعلم الصنعة من جديد، وحتى إن تعلموها فبمجرد إيجاد مهنة بديلة براتب أكبر سرعان ما ينتقلون إليها، مشيرا إلى أن اتساع الفارق المادي لصالح المهن الدارجة حاليًا».
وفقا للتاجر الذي يتحدث بأسى عن الصنعة المهجورة، فإن شباب القرية يفضلون العمل على «توكتوك» أو جمع المواد من القمامة وإعادة تدويرها، بدلًا من الجلوس أمام النول ساعات طويلة دون مقابل مادي مُجزٍّ، وبعدما كانت النسبة الأكبر من سكان القرية تتفرغ للسجاد اليدوي، هناك 300 فرد فقط حاليًا تخطت أعمارهم الخمسين، وأغلبهم يعمل بالسجاد اليدوي كوظيفة إضافية بعد انتهاء وظائفهم الأصلية، وبعضهم يستعير النول للعمل من المنزل بدلًا من الذهاب للورشة.
لكن الأيدي العاملة وحدها لم تكن المُعضلة التي عطّلت سلسة نجاحات القرية في الانتشار، إذ أن الضرائب والمواد الخام وإيقاف التصدير كان لها نصيب الأسد من أسباب احتضار المهنة.
يقول تاجر سابق ممن تركوا المهنة: «هذه الأسباب دفعتنا لغلق مصانعنا، وبعدما كانت القرية تنتج 500 نول في ثلاثة أشهر، الآن تنتج بالكامل 20 نولا فقط، وفي مدة تتجاوز الـ7 أشهر لسنة».
صناعة السجاد اليدوي في قرية طحلة في بنها
من إنتاج مليون نول إلى 100 فقط.. «المستورد» يكسب!
في الحفرة ذاتها وقعت قرية «ساقية أبوشعرة» بمحافظة المنوفية التي كانت تنتج ما يتجاوز المليون نول والآن لا يتخطى إنتاجها الـ100 نول فقط، وفقًا لمصادر من داخل القرية.
يشرح «حامد» عامل سجاد يدوي أن المهنة تحتاج إلى كثير من المهارة والتوافق العضلى والعصبى: «نبدأ بإنتاج الأشكال الهندسية للسجاد بأفكار مستوحاة من الحياة اليومية وتعبر عن البيئة؛ سواء زراعية أو بدوية أو ريفية؛ ونستخدم لإنتاجها الصوف والحرير والقطن ونولًا مصنوعًا من الخشب».
الصنعة في رأي «حامد» تحتاج «مجهودا كبيرا يجب أن يقابله تقدير مادي مناسب».
يتابع «زمان كانت المهنة تعتمد على الاستيراد والتصدير، وتُدر دخلًا جيدًا لأهالى القرى المتخصصة في صناعتها، لكن الآن الوضع اختلف وقلّ الاهتمام بالمهنة».
ضرب استيراد السجاد التركي المهنة، وحتى «اليدوي الهندي» زاد الاهتمام بشرائه واستيراده، رغم أن فارق السعر والأصالة والمتانة لصالح المصري وليس المستورد، حسبما يوضح «حامد».
كنوز الحرف اليدوية في قرى مصر.. سجاد وعسل وأشياء أخرى
صناعة السجاد اليدوي في مصر
شاب مصري يُحب السفر والتجول ويطوف مصر مُسلطا الضوء على كل مهنة وحرفة مميزة بأرجاء النجوع والكفور والقرى؛ زار قرية «طحلة» ذات الشهرة المغمورة في صناعة السجاد اليدوي.
يقول معتز محمد لـ«المصري اليوم»: «القرى المصرية تمتلئ بالصناعات المتنوعة، وبشكل شخصي بحب أشجع الصناعات اليدوية».
بدأ «معتز» جولاته في اكتشاف الصناعات اليدوية من بنها، حيث وجد عشرات القرى التي تصنع أنواعًا مختلفة منها صناعات الجريد، والسجاد، وغيرها.
يحكي: «وجدت أيضًا أيقونات تراثية هامة، فمثلا شاهد أقدم محلات العسل في بنها باسم «حنا فلسطين عجايبي»، وأقدم صيدلية في مصر وتقع بنفس المدينة، وجميعها تحمل قصصًا ثرية».
ويختم «معتز»: «بدأت من بنها وهلف مصر كلها».