El Watan News
97%
Accuracy rank

الجـــذام.. لعنة مجتمعية لا تسقط بالتقادم

الجـــذام.. لعنة مجتمعية لا تسقط بالتقادم
أصابتهم لعنة المرض، فظهرت التقرحات على جلودهم، وضعفت أعصابهم، والنتيجة تساقط وبتر أطرافهم، يقضى معظمهم سنوات طويلة بين المستعمرة وعيادات الجذام فى رحلة علاج شاقة أنهكت الأجساد والأرواح. ولما قُدّر لهم الشفاء، ظنوا أن تعافيهم من المرض، ومنحهم شهادة صحية تثبت خلوهم من العدوى، سيجعل الحياة تفتح ذراعيها من جديد لاستقبالهم، لكن سرعان ما اصطدموا بمجتمع لا يعلم شيئاً عن مرضهم سوى خرافات يتناقلها بأنه «مرض مميت» دون البحث عن حقيقته.

مواطنون يعانون التمييز.. و«فوبيا المرض» تلاحقهم فى العمل والمنازل
هؤلاء محرومون من أبسط حقوقهم فى التعايش وتقبُّل الآخرين لهم، يعيشون داخل سجن كبير بلا أسوار، ويعانون أشكالاً عديدة من التمييز والاضطهاد، سعوا جاهدين لإخفاء ما خلّفه الجذام على أجسادهم من تشوهات، فى محاولة منهم للانخراط فى المجتمع دون جدوى، وحُرم بعضهم من الحصول على مصدر رزق، وانفصل آخرون عن شركاء حياتهم خوفاً من العدوى.. هنا ترصد «الوطن» حكايات المعذبين بالجذام، أثناء المرض وبعد الشفاء.

الحياة أصعب بعد الشفاء.. والمتعافون: «الناس مرعوبين مننا»
25 عاماً من المعاناة قضاها عادل عبدالخالق فى التنقل بين عيادة الجذام بمنطقة القلعة ومستعمرة أبوزعبل، بحثاً عن دواء بعد إصابته بمرض الجذام وهو فى سن الـ32 عاماً، ما تسبّب فى ترك آثار واضحة لا تخطئها العين، أخفى جزءاً منها تحت حذائه الطبى، وباءت محاولات إخفاء أصابع يده اليسرى التى تعرض اثنان منها للبتر تحت قميصه تارة، وفى جيبه تارة أخرى، بالفشل، فقرر تجاهل النظرات التى يطلقها المارة كالسهام القاتلة كلما وقعت أعينهم على إصابته: «الناس لما بتشوف إيدى بتخاف تتعامل معايا وبتتجنبنى، عشان كده بحاول أخبيها». رحلة شاقة اعتادها «عادل» يومياً من مسقط رأسه بمدينة الزقازيق إلى القاهرة بعد اكتشاف مرضه بفترة قصيرة لأخذ جرعات العلاج المكثف أملاً فى الشفاء، حيث لا عيادات للجذام ذات إمكانيات كبيرة فى مدينته الريفية، وبعد نحو 5 سنوات من العلاج تعافى الرجل الخمسينى من المرض بنسبة 85%، ليصنَّف كمريض سلبى للعدوى قبل 3 سنوات.

تشير عقارب الساعة إلى السادسة صباحاً، ويدق جرس المنبه، فينهض عادل من فراشه ليرتدى بتمهُّل ملابسه وحذاءه الطبى الذى صُمم خصيصاً لحماية مرضى الجذام فاقدى الإحساس بأطرافهم من الإصابة والبتر، يتناول إفطاره سريعاً «مستعيناً على الشقا بالله» كما يقول، ويبدأ رحلته فى التنقل بين 5 مواصلات ليصل فى نهاية المطاف إلى عمله كحارس فى مبنى محافظة القاهرة، لا تكاد تمضى ساعتان على وجوده داخل المبنى حتى يغادر الرجل المكان متوجهاً إلى العيادة لأخذ العلاج، ومع حلول الليل يعود عبدالخالق إلى منزله ويلقى بجسده المنهك على السرير لتجديد طاقته ليوم آخر من العناء.

لم يعد جسد الرجل الخمسينى قادراً على تحمُّل مشقة السفر يومياً، والذى كان يكلفه مبالغ مالية كبيرة، فقرر أخيراً طلب إجازة من عمله للإقامة فى مستعمرة الجذام لمدة خمس سنوات. تفرّغ خلال هذه الفترة للعلاج فقط، قبل أن يخبره الأطباء، بعد إجراء عدد من التحاليل، بأن بإمكانه المغادرة والاستقرار فى منزله والذهاب إلى العيادة شهرياً لتلقى العلاج المكون من فيتامينات وأقراص لتقوية المناعة، وفقاً لكلامه، كما حصل عادل على شهادة صحية تنص على تعافيه من المرض، وأن التعامل معه آمن، بعد إجراء عدد من التحاليل اللازمة للتأكد من خمول المرض وإمكانية التعامل مع المريض دون القلق من شبح العدوى.

عادل يشكو من التمييز الذى يتعرض له أثناء ممارسة حياته اليومية، قائلاً: «مش معقول هفضل ماشى أورّى الشهادة لكل اللى هقابله، عشان فيه ناس كتير كل اللى تعرفه عن الجذام إنه مرض معدى ومايعرفوش إن فيه مرضى بيتعالجوا منه وبيعيشوا حياتهم طبيعى».



معاناة أخرى تتعرض لها «س. ع. ع» 30 سنة، فبعد أن منحتها عيادة الجذام شهادة طبية تفيد بتعافيها من المرض وعدم نقلها للعدوى ظنت أنها ستكون شهادة ميلاد جديدة لها، لكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، أصبحت الشهادة بمثابة دليل اتهام ضدها، باتت السيدة الثلاثينية عرضة للتمييز المجتمعى كمريضة جذام، غير مبالين بكونها متعافية: «مابقتش بقول إنى كنت مريضة جذام ومابطلعش الشهادة غير وقت الضرورة لما بتتطلب منى بس».

داخل منزل بمنطقة البساتين، وفى إحدى الغرف بالطابق الثالث، جلست «س. ع. ع» فوق كرسى خشبى ترتدى «إسدال الصلاة» وتحمل بين يديها ابنة شقيقتها التى لا يتجاوز عمرها الـ6 أشهر، وإلى جوارها عكازها الطبى الذى تستند عليه بعد إصابتها بمرض شلل الأطفال بعد قدومها إلى الدنيا بعامين، ما أجبرها على تركيب طرف صناعى يساعدها فى الحركة والتنقل، تقول فى رضا والابتسامة لا تفارقها إنها لا تعتبر نفسها مريضة جذام، فالمرض لديها ليس معدياً، كما أنه لم يترك أى أثر عليها مثلما هو الحال لدى أغلب من أصابتهم لعنة المرض.

لم تمض سنوات قليلة على إصابة «س. ع. ع» بمرض شلل الأطفال ومحاولتها التكيف معه حتى داهم الجذام جسدها الصغير المنهك وهى ابنة 10 سنوات، لم تكن وحدها ضحية للمرض، فقبل عامين أصيبت به شقيقتها الكبرى «ن. ع. ع» لتبدآ معاً رحلة العلاج قبل 20 عاماً. تروى السيدة الثلاثينية عن بدايات ظهور علامات المرض على جسدها: «كنت صغيرة لما لقيت عندى تقرحات جلدية فى إيدى ورجلى بتخلينى أهرش لحد ما بتجيب دم، ماكنتش فاهمه إيه ده، وكنت فاكرة إن اللى عندى حساسية عادية كلها كام يوم وتروح»، وتضيف: «ساعتها ماما قلقت جداً، خصوصاً إنى كان بقالى كذا أسبوع كده وبتزيد، فأخدتنى ورحنا مستشفى الحوض المرصود اللى حوّلنا لعيادة الجذام، وبعد التحاليل اتأكد إن اللى عندى جذام بس لسه فى الأول وسهل أتعالج منه».

تلتقط شقيقتها، 38 سنة، أطراف الحديث وتقول فى أسى إنها رغم تعافيها من الجذام ما زالت تعانى منذ سنوات طويلة من الاضطهاد من أقرب الناس لها بعد إصابتها بالمرض، وتتجسد معاناتها فى انفصالها عن خطيبها بسبب الخرافات التى يشيعها الناس حول المرض والعدوى التى تنتقل كالنار فى الهشيم، وهى أشياء لا أساس لها من الصحة، وتضيف: «كنا ساكنين فى بيت عيلة ومخطوبة لابن عمتى اللى كانت ساكنة معانا فى نفس البيت وبنجهز لفرحنا، وكانت حياتنا كويسة قبل ما يجيلى المرض» وتتابع بنبرة حزينة: «بعد ما اكتشفت إنى مصابة بالجذام وشفت معاملة عمتى القاسية ليا فى حاجة أنا ماليش إيد فيها الدنيا اتهدت فوق دماغى، وحياتى اتغيرت تماماً، واتأكدت إن مفيش حاجة هترجع زى الأول».

ورغم تقبُّل الخطيب لمرضها وقراره بالوقوف إلى جانبها حتى تتعافى منه تماماً فإن والدته كانت له بالمرصاد، وخيّرته بينها وبين ابنة خاله التى أحبها وتمناها زوجة له، وتحت الضغوط تم الانفصال، وزيادة فى المعاناة لم تبال العمة بالحالة النفسية السيئة التى تمر بها الفتاة الصغيرة، وقامت بتحريض والدة الفتاة وشقيقتها ضدها، واقترحت عليهم عزلها فى إحدى غرف المنزل وعدم التعامل معها رغم تلقيها للعلاج وامتثالها للشفاء: «دموعى ماكانتش بتنشف، وحبست نفسى فى البيت عشان عمتى كانت كل ما تقابل حد من قرايبى أو الجيران تقول لهم مايتعاملوش معايا ولا يسلموا عليا». قوة «س. ع. ع» وتلقيها للعلاج بانتظام وحبها للحياة وتشبثها بها كانت أسباباً كافية لتهزم الجذام وتتعافى منه وتكمل دراستها الجامعية لتتخرج فى كلية التجارة وتقتحم سوق العمل، حيث تسلل الأمل من جديد لشقيقتها الكبرى لتتعافى أيضاً بعد سنوات طويلة من الإصابة وتكوّن أسرة طالما حلمت بها، محاولة تجاهل ما تتعرض له من عنصرية بسبب مرضها.

وداخل غرفة صغيرة متواضعة فى مدخل إحدى العمارات القديمة بمنطقة منشية ناصر يسكن محسن محمد حسن، مريض الجذام المتعافى، صاحب الـ54 سنة، وحيداً منذ 10 سنوات، على الرغم من كونه متزوجاً ولديه خمسة أبناء، قبل أن تنتقل زوجته بصحبة أبنائها إلى مسقط رأسها بمدينة الفيوم لغلاء المعيشة فى القاهرة.

جلس صاحب الجسد النحيل الذى أنهكه المرض مرتدياً جلبابه الريفى البسيط، ومتكئاً على كنبة متهالكة مغطاة بقطع من الملابس البالية أعطاها له بعض جيرانه لتحميه من خشونة الخشب وبرودة الطقس فى الشتاء، يسترق النظر بأسى بين الحين والآخر إلى قدمه اليسرى التى نخر المرض عظامها وأحدث بها تشوهات ملحوظة وهو فى الرابعة والثلاثين من العمر، فأصبح لا يقوى على الوقوف إلا لمدة قصيرة، وأبى المرض الرحيل دون أن يصيب أعصاب يديه، حتى فقد الإحساس بثلاث أصابع دون إحداث تشوهات خارجية، وأضعف باقى أطرافه، الأمر الذى أدى إلى فصله من العمل فى صناعة أقفاص الخبز، يقول محسن إن سبب فصله ليس الخوف من العدوى كما يظن البعض، ولكن لاعتماد عمله بشكل كلى على قوة يديه اللتين أهلكهما المرض، فلم يعد بإمكانه صنع شىء سوى كوب شاى يقوم بإعداده كل صباح.

يحكى «محسن» عن بدايات إصابته بالمرض، فى صباح أحد الأيام قبل 20 عاماً، وأثناء استعداده للذهاب للعمل شعر بوخز وتنميل فى أطرافه الأربعة، فظن أنه أمر عارض وسيزول سريعاً، لكن تكرر الأمر فى الأيام التالية يصاحبه حكّة شديدة وألم لا يحتمل، فعرضت عليه زوجته التى كانت تسكن معه آنذاك أن يذهب إلى الطبيب، وبعد رحلة تنقُّل طويلة بين الأطباء والعيادات تم تشخيص مرضه أنه «جذام». لم يكن وقع الأمر شديداً على الرجل الخمسينى، لأنه لم يكن يعلم أى شىء عن مرضه، حتى إنه لم يسمع به من قبل، وفى اليوم التالى، وبمجرد أن علم صاحب العمل بأمر محسن، قام بفصله فوراً: «تانى يوم لقيته جاب حد غيرى وقال لى انت صاحب مرض، ومش أى حاجة ده جذام، يعنى مش هتشتغل بكل طاقتك، والمهنة دى محتاجة قوة».

أدرك صانع الأقفاص وقتها أن الأمر جلل، واقترح عليه أحد معارفه أن يذهب لعيادة الجلدية والجذام فى القلعة بمنطقة السيدة عائشة، وتقع على بُعد خطوات قليلة من جامعَى الرفاعى والسلطان حسن. وعلى الفور انصاع محسن للنصيحة، وبدأ فى أخذ أولى جرعات العلاج، واستمرت حتى 17 سنة قبل أن يتماثل للتعافى بنسبة 90%، يقول «محسن» إنه لم يكن من نزلاء مستعمرة الجذام فى أبوزعبل لأن حالته لم تكن تستدعى ذلك، وهو ما أكده الأطباء، ورغم تعافيه فإن الرجل لم يسلم من التمييز ضده إذا علم الطرف الآخر أنه مريض جذام: «اللى فى المستعمرة بتبقى حالتهم صعبة ووصلوا لدرجة إن أطرافهم بتقع، لكن أنا لحقت نفسى فى الأول»، ويضيف: «الدكاترة اللى بيتابعوا حالتى قالولى إن المرض عندى بقى سلبى ومابقاش معدى، وعملت كذا تحليل عشان أتأكد وأبقى متطمن وأنا بتعامل مع مراتى وولادى». يعول محسن أسرة مكونة من 6 أفراد، ويعمل حالياً حارساً لأحد متاجر بيع الفاكهة: «هى دى الشغلانة المناسبة ليا عشان مش هترفد منها بسبب مرضى»، يتقاضى الرجل الخمسينى 50 جنيهاً يومياً، ويشكو ضيق الحال والمعيشة قائلاً: «الـ50 جنيه اللى باخدها ماتعملش حاجة ومفتوح ليها ميت باب، وفوق مصاريف الأكل والشرب ابنى الكبير عنده 27 سنة وبيعانى من تخلف عقلى وشلل أطفال وبيحتاج دوا غالى وبضطر ماجيبهوش عشان هأكّلهم منين لو جبته، وده بيخلى حالته تبقى سيئة جداً». يسعى «محسن» جاهداً لتوفير مصدر آخر للرزق ولسان حاله يقول: «ما باليد حيلة».
Reviewer's Comment
لقطة إنسانية رائعة، مع تناول سلس وموجز الموضوع يحتمل التوسع وتقديمه في شكل "صحافة فيديو"، لمزيد من تجسيد المعاناة، او التوسع في الكتابة ضمن "ملف"، وتبيان للحملات التي تسلط الضوء على مرض الجذام، ورفض الوصم المجتمعي له
Journalist's Comment
No Comment
Our detailed review
Does the author differentiate between his\her own comments and the presented news?
فصل التعليق
في مقدمة المحتوى
Does the author refer to the source of the images used in the article clearly?
نسب الصور لمصدرها
تصوير: حسن عماد
Did the editor refer to the sources of the information used in the article?
ذكر مصدر المعلومات
معايشة مع المرضى
Resource Links
The article was copied from El Watan News 2018-08-06 15:43:19 View original article
Rating and Reviews
Single opinion
Human Rights
Accurate
100%
Credibility
Single opinion
100%
Professionalism
Accurate
86%
Want accurate news and updates?
Sign up for our newsletter to stay up on top of everyday news.
We care about the protection of your data. Read our Privacy Policy